عِتابْ الألْبابْ...~





عِتابْ الألْبابْ...~ّ  



تراكم الضياع في عينيه وهو يتفحص الصورة الصغيرة في يده...لم يكن ضياعاً أكثر مما هو حزناً
  الضجيج الصاخب في عقله...كان يتصارع مع الألم المكبوت في قلبه
 فظل عاجزاً عن فهم نفسه...وعن عناد قلبه الحائر بين الشوق والعتاب وبين الغضب والحقد
عندما رمى تلك الصورة بغضب الى الأرض ...انفطر قلبه بسرعة...فما ذنبها ؟
هي مجرد ورقة صغيرة...يحتفظ بها طويلاً...إلا أن الورقة الصغيرة تحمل وجه مأساة كبيرة
سارع بالتقاطها وضمها الى كفيه...ولا يعرف لما صار بائساً هكذا...التغير الكبير الذي طرأ عليه
كان مبهماً له أكثر من الأخرين...هو صار غريباً عن نفسه أكثر مما يكون غريباً عن أهله وأصدقائه
فلم يكن يعلم من قبل أنه يجيد التمثيل...لم يتخيل نفسه يوماً في موضع الممثل الزائف ...لم يكن يحبه يوماً إلا
أنه أكره عليه...فقط  كي لا يعلم أحد ببرد الشجب الذي سكن بين جوانحه...يبدي لهم سعادة مفرطة...على غير
عادته...فلطالما عُرف بقسوته وبرودة مشاعره...وتغيره فجأتاً أثارت ربية من حوله...فتحوُل مدير صارم الى
مدير مرح فجأتاً.... كان قمتاً في العجب...!
يبدي لهم أن السعادة تغزوا جل حياته ، بينما شيب القهر يغزوا مفرقه وقذاله ... وبساط السعادة والهيبة قد
سحب من تحت قدميه...وسموما قلبه يكاد يخنقه...ويعجزه عن التنفس
هو يريد الخلاص بسرعة...ومضطر على ذلك...والمضطر...عليه التمسك بأي حبل حتى لو كان حبل
الشيطان...فإن فعل ذلك فما كان لحياته مفاد...إذاً ما الحل؟...حياته...باتت لا تبقي ولا تذر...
يشعر أنه يقف في منتصف الطريق المملوء بالأشواك...نسي طريق العودة وخاف المتابعة   
فاستيأست حاله وغدت غزلها انكاث.
وقف بتعب من فوق السرير؛ ليتجه فوراً الى تلك النافذة الزجاجية المظلمة كأيامه ...اتكئ عليها وكأنه يحاول
سلب شفقتها ، يتمنى ان تضمه وان تخفف عنه...ولكن يالا السخف... وهل كان لجماد يوماً حنان ؟!
لو كان كذلك لما توانت الصور بالتخفيف عنه ... ولكانت البديل ! أو لكان البكاء على الاطلال قد أرجع
أحبابه.
رفعها ثانيتاً الى مرمى عينيه...فلم تطلب شفتيه الإذن منه حتى ابتسمت تلقائياً ...ابتسامة القهر...ابتسامة الجندي
الذي عاد من الحرب مهزوماً ...فقط ليفرح أهله أنه عاد حياً
ويالها من ابتسامة...ابتسامة المهزوم الذليل
المهزوم...هي الكلمة التي تليق به اكثر من غيره...أنيق هو بها...لدرجة تجعله يكره نفسه.
عندما ابتسم بسخرية على الحال الذي وصل اليه ...ادرك كم أن القدر سخر منه اشد السخرية وانتشل من بين
يديه الورقة الرابحة ، وصار هو الخاسر الوحيد!
لطالما كان يشعر بالسخرية من قصائد نزار وقيس وذو الرمة...ما كان يعلم انه سيكون احد الضحايا
والآن صار يسميهم الضحايا بعدما كان يسميهم السذج...بعد ان عانا المر سماهم الضحايا لأنه يريد ان يضع
نفسه في موضع الضحية
لكن يبقى اختلاف قصيصهم...هو لا يعرف من المذنب ...هو ام هي؟ ...فترتاً يعاتب قلبه لأنه احبها وترتاً
يعاتبها على رفضها له...فيرى ان فتاة صغيرة ترفضه مهيناً اكثر مما لو كانت غيرها ...لطالما حصل على
أي امرأة اردها دون بذل جهد ...ويحطم قلبها دون ان يرف له جفن
والأن ضاق المر من تلك الصغيرة...وانقلبت الطاولة فوق رأسه... فحطمت قلبه دون ان يرف لها جفن...وفي
النهاية يرمي عتابه على القدر الذي اوصله لتلك المخلوقة...واحياناً اخرى يعاتب نفسه على الأذى الذي سببه لها...!
لطالما كان محظوظا في اللعب بالقلوب ولكنه تلقى اخيراً تلك الضربة التي تقسم الظهر ، ادرك اخيراً تلك
العبارة التي تقول " المحظوظ في اللعب , سيء الحظ في الحب "
ألمته الضربة وأخذ الدرس منها ، ولكن بعد فوات الأوان
لكن الحيرة أسرته ، أيضع اللوم على نفسه فقط ؟....تلك إذاً قسمة ضيزى  ، فهي أيضاً تستحق اللوم
هل كان  كل هذا ذنبه فقط ؟... صحيح انه كان مستعجلاً على اجتماعه الخاص في ذاك اليوم ، لم يكن قد انتبه
لها وهي تعبر الطريق مستعجلة ، فلم يكن منها إلا أن تتلقى تلك الصدمة من سيارته...بينما تلقى هو صدمة انها
ماتت بسببه.
فلم يصبها شيء سوى سبب مرارته الأن ؛ فقد اجمع الاطباء انها لن تستطيع أن تمشي مثل الاخرين بل ستبقى
طول حياتها عرجاء، فتشوهت وتشوه قلبها وتشوهت حياته معهما ...فلم يتركها يوماً بل ظل بجانبها
وصارت أحد مسؤولياته...وكأنها تخصه وحده...واحبها بصدق
...لم يتحمل أن تبتعد عن عينه يوماً ، لم يكن يريد شيئاً منها سوى أن تكون زوجه وشريك حياته.
وعندما اراد تحقيق مراده وطلب يدها رفضته، رفضته باتهام غاشم ، باتهام مؤلم اكثر مما يكون مريع ...كيف رفضته ؟
كيف تفكر أنه يشفق عليها ويحمل نفسه مسؤولية ما حدث لها ...كيف لها ألا ترى حبه الصادق في عينيه ؟
وتظن به الظنون...تظن انه مشفق على حالها وألا ينظر إليها أحد ويتقدم لطلب يدها ...أتظنه بهذا السوء ؟
أرأيتم كم هو حائر؟...كم هو متألم ؟...ولا يعرف على من يرمي اللوم ؟ فهي لم تكره لترفضه بل بتفكير خاطئ
ولوم نفسه على عدم قدرته بإقناعها وفي النهاية يعاتب قلبه الذي احب فتاة لم تكن ابداً له
ولكن هذا كله لم يؤلمه اكثر من زواجيها بابن عمها على فترة قصيرة من رفضها له ...ولا يعرف هل يكرهها
لفعلتها هذه او يتفهم ما كانت تظنه نحوه.
_ تنهد بمرارة كبيرة، جرته قداماه ليعود الى مضجعه جالساً عليه ، هو تعب...ومل من الحزن فلطالما كان
يكره كل شيء يبدأ بحرف الحاء " حزن ، حيرة ، حرب ، و....حب"
لكنه الأن صار يحبه بشدة ، فقط لأن اسمها يبدأ بهذا الحرف...ربما إن حاول التشبث بحبها فكأنه يحاول التشبث
بقشة...يتصارع مع حبال الآمال الكاذبة...دون جدوة من الاعتصام بأحدها ...وكأنهما يتصارعان على الفوز في
لعبة تلك الحبال...و في نهاية المطاف استطاعت هي جر الحبل اليها...حبل السعادة والعيش المرتاح .
وتركته واقعاً على الأرض غير مدرك لعالمه ، فرجعت لأهلها مسرورة ورجع هو بخفي حنين.
عندما داعبت اشعة الشمس المنبعثة من النافذة وجهه ، أدرك أن الصبح قد أزاح خمار الحشمة عنه ، وأظهر
حسنه الفتان ...وكأنه يقول له مهما طالت وحشة الليل  وأحزانه فسيطلع الصبح ليحزم الامر ببهجة وأمل
ربما ادرك الحقيقة الأن...حقيقة الأمل الصاخب...ربما كان جشعاً عندما كان يتمسك بآمالي كثيرة...بينما أمل
واحد يكفي ، حقيقة ذلك الأمل هي ان الحياة لم تتوقف عند احد وأن أوليك اليائسون المتشائمين
لا يستحقون العيش ...حتى افظعها...فهو لن يكون كأوليك الذين يظنون ان الحياة ليست سوى ارحام تدفع
وارض تبلع., سيرضى بالأمر الواقع...وسيرضى بحكم القدر...فلعل ذلك خيراً لكليهما...ربما لن يستطيع نسينها لكنه سيتابع حياته بهدوء، بعيداً عنها وعن أهاتها المرة.
_ تفحص الصورة للمرة الاخيرة وهو يتمنى أن تكون الذكرى الاخيرة لها ، اخرج القداحة من جيبه واشعل
الصورة  بها ، ابتسم عندما تحولت تلك الصورة بسرعة خيالية الى رماد ، متمنياً ان تزول صاحبتها من قلبه
بنفس السرعة ، عزم اخيراً ألا تكون هي في حياته سوى الأثافي والرسوم البلاقع .
وقف على رجليه وتقدم نحو باب الغرفة فاتحاً اياه معطياً الامل لنفسه كما اعطاها قيس بن ذريح خاتما احدى
قصائده بقوله " ليس لأمر قدر الله جمعه مفرقاً ، ولا ما فرق الله جامعُ "  
خرج بعد ذلك واغلقه مغلق معه أحزان لبه اليائس.
      

  
  
    


  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق